شهد البيت الأبيض، اليوم الاثنين، حدثًا تاريخيًا تمثل في استقبال الرئيس الأميركي دونالد ترمب لنظيره السوري أحمد الشرع، في أول زيارة رسمية لرئيس سوري إلى العاصمة الأميركية واشنطن منذ إعلان استقلال سوريا عام 1946. ويعتبر هذا اللقاء تحولاً محورياً في مسار العلاقات بين البلدين بعد أكثر من عقد من الانقطاع السياسي والعزلة، وسط صراعات إقليمية ودولية متعددة.
وصل الرئيس السوري الشرع في الساعة 11:37 صباحًا بتوقيت واشنطن، ودخل عبر باب جانبي بعيد عن الأبواب الرئيسية التي اعتاد الصحفيون الدخول منها لتغطية الأحداث الرسمية في البيت الأبيض، ما يعكس طبيعة الزيارة الاستثنائية وحساسيتها السياسية. وعُقد الاجتماع خلف أبواب مغلقة في المكتب البيضاوي للرئاسة الأميركية، واستمر لمدة ساعة ونصف تقريبًا، بمشاركة كبار مسؤولي الأمن القومي ووزارة الخارجية من كلا الجانبين، لمناقشة ملفات حساسة تتعلق بالأمن الإقليمي والسياسات الدولية.
ركز اللقاء على عدد من الملفات الاستراتيجية، أبرزها انضمام سوريا رسمياً إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش"، وتعزيز التنسيق العسكري بين البلدين، بالإضافة إلى بحث سبل رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا وتقديم المساعدات لإعادة الإعمار، في خطوة تُعد جزءًا من الجهود الأميركية لمنح سوريا فرصة جديدة نحو الاستقرار والتنمية.
تزامن اللقاء مع إعلان وزارة الخزانة الأميركية تعليق العقوبات المفروضة على سوريا بموجب قانون "قيصر"، باستثناء تلك المرتبطة بالعلاقات مع روسيا وإيران. وجاء في البيان الرسمي أن هذه الإجراءات تأتي ضمن جهود إدارة الرئيس ترمب لتخفيف الضغوط الاقتصادية على سوريا، وتمكينها من تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي بعد سنوات طويلة من التوترات والعقوبات. وفي هذا الإطار، أعلن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية عن إزالة اسم الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس حسن خطاب من قوائم العقوبات الخاصة، ما اعتُبر خطوة عملية نحو تمهيد الطريق لرفع تدريجي للعقوبات، ويمثل تمديدًا لتعليق قانون "قيصر" لفترة إضافية ريثما يصادق الكونغرس على الإجراءات النهائية.
شهدت الزيارة حضورًا شعبيًا بارزًا من الجالية السورية في واشنطن، التي احتشدت أمام البيت الأبيض حاملين الأعلام السورية ومرددين شعارات مؤيدة للدولة السورية الجديدة، في مشهد وصفه مراقبون بأنه "لحظة رمزية لبداية صفحة جديدة في العلاقات السورية الأميركية". وأكد المشاركون شعورهم بالفخر والاعتزاز بما اعتبروه حدثًا تاريخيًا يعكس تغيرًا ملموسًا في السياسات بين البلدين.
وتطرقت المباحثات أيضًا إلى مسائل عسكرية حساسة، حيث تم بحث إمكانية تواجد محدود للقوات الأميركية في قاعدة قرب دمشق لدعم عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" وضمان تطبيق اتفاق أمني يجري التفاوض بشأنه بين دمشق وتل أبيب. كما تم بحث إعادة هيكلة الجيش السوري ودمج القوات الديمقراطية السورية ضمن جيش وطني موحد، بناءً على اتفاقيات مبدئية تم التوصل إليها في مارس الماضي.
وعقب انتهاء الاجتماع عند نحو الساعة 1:20 ظهرًا، نزل الرئيس السوري الشرع من موكبه لبضع دقائق لتحية عشرات المؤيدين المتجمعين في شارع بنسلفانيا قرب حديقة لافاييت، ورفع الأعلام السورية وحيّا الحضور بإشارات يد إيجابية، فيما وصف شهود عيان الأجواء بأنها عكست روح التفاؤل والمرحلة الجديدة التي تدخلها العلاقات بين البلدين.
تأتي هذه الزيارة بعد سلسلة من التحولات السياسية المهمة في سوريا خلال العام الحالي، منذ تولي الشرع السلطة بعد سقوط نظام بشار الأسد، حيث أظهرت القيادة الجديدة تغييرات جذرية في السياسات الداخلية والخارجية، بما في ذلك التعاون في مكافحة الإرهاب والانفتاح على المجتمع الدولي والعلاقات مع الدول العربية والغربية.
ويعتبر هذا اللقاء تتويجًا لسلسلة تحركات دبلوماسية بدأت باللقاء الأول بين الرئيسين في مايو الماضي على هامش قمة مجلس التعاون الخليجي في الرياض، والذي مهد الطريق لتخفيف العقوبات تدريجيًا، ثم تلا ذلك خطوات إضافية مثل رفع تصنيف "هيئة تحرير الشام" كمنظمة إرهابية في يوليو الماضي، بما يعكس تحولات ملموسة في السياسة الأميركية تجاه سوريا.
ويرى محللون أن نتائج هذا اللقاء قد تمهد الطريق لانخراط سوريا تدريجيًا في منظومة الأمن الإقليمي بقيادة واشنطن، خصوصًا بعد أن نجحت الإدارة الأميركية في شطب اسم الرئيس الشرع من قوائم العقوبات الدولية، وهو ما يفتح الباب أمام اتفاقات مستقبلية تشمل ملفات العقوبات وحقوق الإنسان وإعادة الإعمار، مع تشكيل لجنة مشتركة لمتابعة هذه القضايا وإعلان تفاصيلها لاحقًا.
وتؤكد مصادر دبلوماسية أن هذه الزيارة تمثل بداية مرحلة جديدة من الانفتاح، بعد أكثر من عشر سنوات من القطيعة بين البلدين، ويتوقع الخبراء أن تؤدي خلال الأشهر المقبلة إلى اتفاقات أمنية واقتصادية كبرى قد تعيد رسم موقع سوريا في التوازنات الإقليمية، وتمنحها فرصًا جديدة لتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي، والتفاعل بشكل فعال مع المجتمع الدولي.














