منصة واضح - تقرير
في وقتٍ يقف فيه العراق على حافة أزمة مائية خانقة تهدد ملايين المواطنين وقطاعاته الزراعية والصناعية، تفجّرت أزمة جديدة داخل أروقة وزارة الموارد المائية، لم تكن في صلب المشكلة، بل في إدارة حلولها. فبدل أن تتركّز الجهود على توفير مضخات عائمة لإنقاذ البلاد من الجفاف، تحوّل الملف إلى ساحة تضارب إداري وإقصاء لشركة تعد الوكيل الحصري لمصنّع عالمي، وسط قرارات مثيرة للجدل تكشف عن تناقضات في المواصفات والأسعار والإجراءات القانونية.
منصة "واضح" تتبعت خيوط هذه القضية المربكة، من القرارات الوزارية المثيرة إلى المراسلات الدولية، لتكشف كيف تحوّلت أزمة المياه من تحدٍّ تقني إلى أزمة إدارة.
ففي أواخر تموز 2025، قررت وزارة الموارد المائية إدراج شركة العاديات للنفط/ طاقة ضمن قائمة "عدم التعامل"، بدعوى تضليل الوزارة وتقديم معلومات غير صحيحة.
القرار لم يكن مجرد إجراء إداري عابر، بل مسّ سمعة شركة عراقية ودولية في آن واحد، وعرّض مسار مشروع استراتيجي لإمداد العراق بالمضخات العائمة إلى ارتباك خطير.
لم يتوقف الخلل عند إقصاء الشريك الحصري، بل تعدّاه إلى تغيير جوهري في مواصفات المضخات، حيث قام وزير الموارد المائية بالموافقة على استبدال المضخات المطلوبة من طراز VL الحديث – الذي ينسجم مع حاجات الوزارة – بمضخات من طراز AL القديم. هذا التغيير يُعد خرقًا قانونيًا صريحًا لتعليمات العقود الحكومية، ويكشف عن ضعف في الالتزام الفني.
كما اتضح أن شركة العراق الخاصة، التي أُحيل إليها العقد، كانت قد خزّنت هذه المضخات منذ عام 2022، أي قبل أكثر من ثلاث سنوات، بينما الشركة الكولومبية المصنعة ETec أقرت رسميًا بأن هذه المضخات خرجت من الضمان ولا يشملها أي دعم فني. الأخطر أن تكلفة هذه المضخات تضاعفت خمس مرات عن سعر مقدّم من قبل إحدى الشركات الخاصة، وهو ما يعني هدرًا واضحًا للمال العام.
خدعة وتضليل العقد
مارست الوزارة ما يشبه الخدعة حين برّرت الإحالة لشركة العراق بذريعة أن المضخات "جاهزة" وأن ذلك سيُسرّع التوريد في ظل الشحة المائية. لكن الحقيقة أن هذه المضخات تحتاج إلى أدوات تشغيل أساسية، لا يمكن استيرادها في أقل من 200 يوم، ما يعني أن مبرر "الجاهزية" لم يكن سوى غطاء لتبرير الصفقة.
رفض العرض الأرخص ومكافأة المقصّرين!
الأدهى أن الوزارة رفضت عرضًا من إحدى الشركات التي تقدمت بسعر 45 مليار دينار، وأحالت العقد إلى شركة العراق بسعر 105 مليار دينار، أي بزيادة أكثر من الضعف. وهذه الشركة نفسها سبق أن أُدينت بملف "أنابيب البدعة"، وصدر بحقها قرارات من جهات رقابية، ومع ذلك نالت ما يشبه "مكافأة" بعقد جديد ضخم!
لغة غير لائقة في المخاطبات الرسمية
ولم تتوقف المؤشرات المثيرة عند هذا الحد، إذ حمل كتاب رسمي صادر عن الوزير نفسه بتاريخ 8 أيلول/ سبتمبر، إلى شركة العراق صيغة غير مألوفة في لغة المخاطبات الحكومية، إذ استخدم كلمة "رجاءً" في مخاطبة الشركة لتجهيز الوزارة بـ70 مضخة، وهو ما يعكس حالة من التوسل بعيدًا عن معايير الرسمية والصرامة المفترضة في إدارة العقود السيادية.
التحقيق، المدعوم بالوثائق الرسمية الصادرة عن وزارة الموارد المائية، وزارة التخطيط، مجلس الوزراء، والشركة المصنعة الكولومبية ETec – COMETCO Ltd، يكشف خفايا هذا الملف الذي تحوّل من فرصة لإنقاذ البلاد من العطش إلى قضية تشوبها التناقضات والتجاوزات.
القرار المثير للجدل
بتاريخ 30/7/2025، أصدرت وزارة الموارد المائية كتابًا رسميًا يقضي بإدراج شركة العاديات في قائمة "عدم التعامل". وجاء في التبرير أن الشركة استخدمت "أساليب منافسة غير مشروعة" ومارست "حالات فساد واحتيال" في ظل الأزمة المالية والمائية التي تمر بها البلاد، بالتزامن مع حصولها على موافقة بالتعاقد المباشر على تجهيز المضخات استثناء من ضوابط العقود الحكومية.
غير أن اللافت أن الشركة لم تكن طرفًا في أي مناقصة أو عقد مع الوزارة، ما يجعل القرار فاقدًا لركنه الأساسي وهو وجود تعامل أو إخلال تعاقدي. وهذا ما أكدته العاديات في تظلم رسمي قدمته إلى الوزير، معتبرة أن القرار يخالف الدستور العراقي ومبادئ القضاء الإداري، فضلًا عن إلحاقه ضررًا بسمعة الشركة وعلاقاتها الاستثمارية
ماذا رد المصنع الكولومبي؟
رد الشركة المصنعة، ETec – COMETCO Ltd، جاء سريعًا وقاطعًا. ففي عدة كتب رسمية موجهة إلى وزارة الموارد المائية، أكدت الشركة ما يأتي:
1. صحة جميع المخاطبات التي صدرت عن شركة العاديات.
2. أن العاديات هي الوكيل التجاري الحصري والوحيد في العراق.
3. أن أي شهادات منشأ أو تخويلات تصدر من غير العاديات تعتبر مزوّرة وباطلة.
كما شددت الشركة على أن أي مضخات جرى تصنيعها عامي 2022 و2023 انتهت فترة ضمانها ولا تتحمل الشركة مسؤولية أعطالها، كونها أصبحت خارج نطاق الدعم الفني.
هذا الرد لم يترك مجالًا للشك، إذ نسف مبررات الوزارة، ووضعها في مواجهة وثائق رسمية دولية لا يمكن الطعن فيها.
تظلم العاديات: قرار بلا أساس قانوني
قدمت شركة العاديات تظلمًا مفصلًا، عرضت فيه نقاطًا جوهرية:
• لم يسبق للشركة أن دخلت في أي عقد أو نفذت أي التزام مع الوزارة.
• لم تُمنح فرصة الدفاع عن نفسها أمام اللجنة التي أوصت بالقرار.
• القرار بُني على "معلومات غير مكتملة أو غير دقيقة".
• الأضرار المترتبة على القرار جسيمة، تمس سمعة الشركة وتضعف مكانتها التجارية.
التظلم استند أيضًا إلى المادة 19/ثالثًا من الدستور العراقي، التي تكفل حق الدفاع، وإلى مبادئ محكمة القضاء الإداري التي تشترط أن يكون القرار الإداري مسببًا ومبنيًا على وقائع صحيحة.
مجلس الوزراء يقول كلمته.. والوزارة تناقض!
في الثالث من حزيران 2025، أصدر مجلس الوزراء قراره المرقم (422) لسنة 2025، الذي نص على:
• إدراج مشروع تجهيز 70 مضخة عائمة لصالح وزارة الموارد المائية.
• استثناء الوزارة من تعليمات تنفيذ العقود الحكومية.
• تخويلها التعاقد المباشر مع الوكيل الحصري المعتمد.
ورغم وضوح القرار، تجاهلت الوزارة نصّه، وذهبت إلى إقصاء العاديات من المشهد، بدلًا من تنفيذ التعاقد المباشر، اتهمت الشركة بالتضليل، وأدخلت المشروع في دوامة جديدة من البيروقراطية.
تضارب يفضح غياب الرؤية
في وثيقة رسمية مؤرخة بتاريخ 20/8/2025، وجهت وزارة التخطيط انتقادات صريحة إلى وزارة الموارد المائية، وجاء فيها:
• أن الوزارة قدمت جداول أسعار ومواصفات متناقضة ثلاث مرات.
• أن هذا يعكس "عدم وجود رؤية واضحة" لإدارة المشروع.
• أن الوزارة تتحمل كامل المسؤولية الفنية والمالية والإدارية عن أي إخفاق مستقبلي.
هذا الموقف العلني من وزارة التخطيط يضعف أكثر موقف وزارة الموارد، ويؤكد أن الإرباك لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة سوء إدارة وغياب التنسيق.
شهادات تؤكد العلاقة الحصرية
المراسلات تعود إلى ما قبل 2025، إذ أن شركة العاديات كانت قد وقعت اتفاقيات تعاون مع المصنع الكولومبي، وأكدت شراكتها في عدة مخاطبات رسمية. كما شاركت في مشاريع إقليمية في الأردن والإمارات والعراق، ما يعكس سجلها الحافل وخبرتها الطويلة في قطاع البنى التحتية.
الأبعاد القانونية
من الناحية القانونية، يفتقد قرار وزارة الموارد المائية إلى:
• الركن الشكلي: لم يُستوفِ شرط إشعار الشركة أو تمكينها من الدفاع.
• الركن الموضوعي: لم تُثبت أي واقعة تزوير أو تضليل، بل جاءت الأدلة عكسية.
كما يتعارض مع الهدف العام المتمثل في معالجة شحة المياه، إذ يعطل المشروع بدلًا من تسريعه.
وتم الاستناد أيضًا إلى ضوابط وزارة التخطيط الخاصة بـ"إدراج المناقصين في القائمة السوداء" لا ينطبق على حالة العاديات، لعدم وجود أي عقد أو إخلال تعاقدي مثبت.
وتثير الإجراءات الأخيرة لوكيل وزارة الموارد المائية، رائد عبد زيد الجشعمي، جدلاً واسعًا، بعد أن أصدر أمرًا وزاريًا شمل تغييرات إدارية على مستوى القيادات الوسطى في مركز الدراسات والتصاميم الهندسية، بالتزامن مع دفاعه عن التعاقد مع الشركة المتهمة بفساد المضخات، والتي يتهم هو نفسه بالضلوع فيها.
الأمر الوزاري جاء بتكليف باسم يحيى جحيش، معاون المدير العام، لتسيير أعمال المركز وكالة، فيما تم إنهاء تكليف محمود سعدي أحمد وإعادته لوظيفته السابقة، في خطوة وصفها مراقبون بأنها محاولة لإعادة ترتيب المناصب بما يخدم مصالح الشركة على حساب النزاهة والشفافية في الوزارة.
هذه التحركات أثارت شبهات حول استغلال المناصب الإدارية للتغطية على قضايا فساد، وتعيد تسليط الضوء على ضرورة مراقبة العقود الحكومية والإجراءات الداخلية لضمان عدم استغلالها لأغراض شخصية أو شركات محددة.
بالمقابل، قدمت شركة طاقة، توضيحًا رسميًا إلى وزارة الموارد المائية بشأن الجدل الدائر حول حقوقها الحصرية في العراق لتجهيز المضخات الكهربائية العملاقة.
وجاء في الكتاب الموجه إلى معالي وزير الموارد المائية بتاريخ (7 أيلول 2025)، أن الشركة حصلت على حقوقها القانونية بالاستناد إلى كتاب الشركة المصنعة ETec المرقم (2010/7) والمؤرخ في (25 تموز 2023)، والذي يمنحها الوكالة الحصرية في العراق.
وأكدت الشركة أن جميع المخاطبات التي صدرت عنها تستند إلى هذا التفويض القانوني، مشيرة إلى أنها الجهة الوحيدة المخولة من الشركة المصنعة لتوريد المضخات إلى السوق العراقية.
كما شددت "طاقة" على التزامها بالتعاون الكامل مع وزارة الموارد المائية لتوفير المعدات اللازمة ضمن المواصفات الفنية المعتمدة، وضمان استمرارية العمل في المشاريع الاروائية.
أزمة المضخات لم تعد مجرد ملف إداري أو نزاع تعاقدي، بل أصبحت انعكاسًا واضحًا لأزمة أعمق تضرب إدارة الموارد المائية في العراق. وبين قرارات متناقضة، ومخاطبات رسمية تكشف ارتباكًا، ومصالح متشابكة لا تخلو من شبهات فساد، يبقى المواطن العراقي هو الضحية الأولى.
فالمزارع الذي ينتظر المياه لأرضه، والعائلة التي تبحث عن قطرة صالحة للشرب، لا يعنيها إن كان العقد مع هذه الشركة أو تلك، بقدر ما يعنيها أن ترى حلولًا عملية تُنقذها من العطش. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه في النهاية.
لكن السؤال الأهم هو: هل ستبقى وزارة الموارد المائية غارقة في البيروقراطية والصراعات، أم ستعيد توجيه بوصلتها نحو الهدف الأسمى، وهو إنقاذ البلاد من أزمة وجودية تهدد حياة الملايين؟
هذا وتكفل منصة "واضح" حق الرد لكل من ورد اسمه داخل التقرير.