في ظل بيئة اقتصادية متقلبة، تتسم بضعف الرقابة وتذبذب العملة المحلية، أصبح الذهب في العراق أكثر من مجرد سلعة. فقد تحوّل إلى أداة مالية مركزية تعكس أزمات الداخل وتقاطعات الخارج في آن واحد. الأرقام الرسمية للنصف الأول من العام الحالي تشير إلى استيرادات تجاوزت 30 مليار دولار من خمس دول رئيسية، تصدرتها الإمارات ثم الصين وتركيا والاتحاد الأوروبي والهند. ومن بين هذه الاستيرادات، برز الذهب والمعادن الثمينة بقيمة 3.3 مليار دولار، ما يعكس موقعه الاستثنائي ضمن هيكل التجارة العراقية.
مع القيود المالية الدولية المفروضة على التحويلات المصرفية، أصبح الذهب قناة بديلة لتعويض النقص في الدولار. فالاستيراد الضخم للمعدن النفيس لم يعد مجرد نشاط تجاري، بل وسيلة لتدوير الأموال خارج المنظومة المصرفية الرسمية، سواء عبر إعادة التصدير لدول مجاورة، مقايضته ببضائع، أو استخدامه كأصل يمكن تسييله بسهولة بعيداً عن الرقابة. هذا الاستخدام المزدوج جعل الذهب ليس مجرد سلعة، بل أداة مالية تضاهي الدولار في التأثير على السوق والاقتصاد الوطني.
تشير التحليلات إلى أن عام 2024 شكّل نقطة تحول بارزة، إذ بلغت قيمة استيرادات الذهب 12.5 مليار دولار، ما يعادل نحو 16% من إجمالي استيرادات البلاد، وهو رقم يوازي تقريباً كامل احتياطي البنك المركزي من الذهب. ومع غياب بيانات دقيقة عن المنافذ التي دخل منها الذهب وآليات توزيعه داخلياً، تتزايد التساؤلات حول الوجهة النهائية لهذه الكميات: هل تم استهلاكها في السوق المحلية، أم إعادة تصديرها، أم استخدامها كوسيلة مقايضة في صفقات تجارية غير معلنة؟
في الأسواق المحلية، انعكس ارتفاع أسعار الذهب بشكل مباشر على الحياة اليومية. فقد تجاوز سعر مثقال الذهب عيار 21 حاجز 730 ألف دينار، فيما وصل عيار 24 إلى أكثر من 830 ألف دينار، بالتزامن مع تسجيل الأونصة العالمية لمعدن الذهب أسعاراً قياسية. هذه الزيادة دفعت العديد من الشباب إلى تأجيل الزواج، وزادت الأعباء على الأسر، ما أثار تحذيرات من انعكاس الأزمة على بنية المجتمع ورفع معدلات العزوف عن الزواج وتأخير تأسيس الأسر.
الخبراء الاقتصاديون يؤكدون أن ضبط ملف استيراد الذهب يشكل تحدياً كبيراً، خاصة مع محاولة شمول جميع السلع بالإصلاح دفعة واحدة. لذلك، يُنصح بالتركيز أولاً على السلع عالية القيمة وربط التعامل بها بآليات دفع إلكترونية شفافة تسمح بتتبع حركة البيع والشراء ومعرفة المستفيد النهائي. أتمتة قطاع الذهب وحدها كفيلة بكشف الثغرات المالية ومنع استغلاله كغطاء لعمليات مالية موازية.
على الصعيد العالمي، يرتبط ارتفاع أسعار الذهب داخل العراق بالموجة العالمية التي يشهدها المعدن النفيس، بما يعكس تأثير حركة البورصات الدولية وتقلبات سعر صرف الدولار في السوق الموازي. كما أن شراء كميات كبيرة من الذهب يتيح للعراق مرونة أكبر في إدارة السياسة النقدية، ويعزز الثقة بالاقتصاد المحلي، وقد يساهم في استقرار قيمة الدينار.
في المحصلة، أصبح الذهب في العراق مفترق طرق بين ثلاثة أبعاد: أداة لتحصين الاقتصاد الوطني، عبء اجتماعي ضاغط، وورقة نفوذ سياسي. وفي الوقت نفسه، يظل الذهب قناة محتملة لتهريب العملة أو استغلاله خارج المنظومة الرسمية، ما يضع المسؤولية على الدولة لضبط مساراته وتحويله من مصدر قلق إلى رصيد استراتيجي يعزز الاستقرار المالي ويكرّس الثقة بالسياسة الاقتصادية الوطنية.