منصة واضح - بغداد
يشكّل العنف ضد الأطفال واحدة من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تهدد حاضر الأجيال ومستقبلها، إذ لا يقتصر أثره على إيذاء الجسد أو النفس، بل يمتد ليترك ندوباً عميقة في السلوك والعلاقات والثقة بالنفس.
وبينما تتعدد أشكال هذا العنف بين الجسدي والعاطفي والجنسي والإهمال وحتى الإلكتروني، فإن نسب انتشاره بين الفئات العمرية المختلفة تعكس حجم التحدي الذي يواجهه المجتمع العراقي، ما يستدعي دوراً مضاعفاً من القضاء والتشريع والمؤسسات التربوية والأسر على حد سواء، لوضع حد لهذه الانتهاكات وضمان بيئة آمنة لنمو الأطفال وصون حقوقهم.
وفي هذا الصدد، قال قاضي محكمة تحقيق الرصافة سعدون عبادة إن العنف ضد الأطفال يشمل أي فعل أو إهمال يتسبب في ضرر جسدي أو نفسي للطفل، مشيراً إلى أن هذه الظاهرة متعددة الأشكال وتشمل:
العنف الجسدي: ويشمل الضرب، الركل، الصفع، الحرق، وأي إيذاء جسدي آخر يلحق بالطفل.
العنف العاطفي أو النفسي: ويتضمن الإساءة اللفظية والتقليل من شأن الطفل أو تهديده بشكل متكرر.
العنف الجنسي: ويشمل التحرش الجنسي أو الاغتصاب أو أي اتصال جنسي غير مناسب للطفل.
الإهمال: ويقصد به عدم توفير الاحتياجات الأساسية للطفل، مثل الطعام والملابس والرعاية الصحية والتعليمية.
العنف الإلكتروني: والذي يمكن أن يشمل الابتزاز أو نشر صور أو معلومات شخصية للطفل دون موافقته.
وأوضح القاضي أن "الأطفال الأكثر تعرضاً للعنف هم فئة 5 إلى 9 سنوات، حيث تتعرض هذه الفئة للعنف بنسبة تصل إلى 93%، بينما الأطفال بين 2 و4 سنوات يتعرضون للعنف بنسبة 90%، وفئة الأطفال بين 10 و14 سنة تتعرض للعنف بنسبة 88%، مؤكدا أن "الفئة العمرية الصغيرة تتأثر بشكل أكبر بالعنف الجسدي، وهو الشكل الأكثر شيوعاً بين الأطفال".
وشدد القاضي على أن "المشرع العراقي وضع عقوبات صارمة لمن يمارس العنف ضد الأطفال، تختلف باختلاف طبيعة الجريمة وشدتها. وتشمل العقوبات السجن لفترات متفاوتة بحسب خطورة الجريمة، بالإضافة إلى إمكانية إلزام الجاني بأداء خدمة اجتماعية كجزء من العقوبة".
ويراعي القانون طبيعة العلاقة بين الجاني والطفل، حيث يتم تشديد العقوبة في حال كان الجاني من الأقارب بسبب المسؤولية العاطفية والثقة التي تُنتهك، إذ يمكن أن يتسبب العنف من الأقارب في أضرار نفسية أعمق للطفل، بحسب عبادة.
وعن العنف المرتكب من قبل موظفين عامين، مثل المعلمين أو رجال الأمن، يشير إلى أنه "يُعامل بصرامة أكبر، وقد يتضمن اتخاذ إجراءات إدارية إضافية مثل الفصل من العمل، إلى جانب العقوبات القانونية، مع توفير حماية قانونية فورية للطفل".
وعن الآثار النفسية للعنف على الأطفال، أوضح القاضي أن "الأطفال المعنفين يعانون من القلق والخوف والاكتئاب واضطرابات النوم، كما يمكن أن تنعكس هذه التجارب على سلوكهم العدواني وتؤثر على ثقتهم بأنفسهم، مما ينعكس بدوره على حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية وتحصيلهم الدراسي".
وأشار إلى أن "التعرض للعنف قد يدفع الطفل إلى تعلم السلوك العدواني كوسيلة لحل المشكلات أو التعبير عن المشاعر، ويصبح هذا جزءاً من سلوكياته المستقبلية، فيما يؤدي القلق والتوتر إلى تفاقم احتمالات ظهور سلوكيات غير مرغوبة، وانخفاض الثقة بالنفس".
وختم القاضي بالقول إن "تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال ضحايا العنف يعد عاملاً أساسياً لمساعدتهم على التعافي والتغلب على الآثار النفسية والاجتماعية السلبية"، مؤكدا أن "حماية الأطفال من العنف مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الأسرة والمجتمع والمؤسسات القانونية كافة".
من جهته، يتحدث قاضي محكمة جنح الرصافة ضياء حسن عن الدور المحوري للقضاء العراقي في حماية حقوق الطفل من خلال تفسير القوانين الوطنية وتطبيق الاتفاقيات الدولية، مؤكداً أن "اتفاقية حقوق الطفل التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1989 تمثل الإطار الأساسي لحماية الصغار من مختلف أشكال العنف والاستغلال".
وأوضح القاضي أن "هذا الإطار تعزز عبر اتفاقيات إقليمية ودولية أخرى، منها ميثاق حقوق الطفل العربي والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي نصت على ضمان الحماية القانونية للأطفال، إضافة إلى المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن العدالة في قضايا الأطفال ضحايا العنف، وما تضمنته من معايير واضحة للعدالة والحماية الاجتماعية"، لافتا إلى اتفاقيات منظمة العمل الدولية التي تجرّم العمل القسري والإتجار بالأطفال واستغلالهم.
وبيّن أن "القضاء العراقي يتعامل مع قضايا العنف ضد الأطفال بجدية بالغة، بدءاً من تلقي الشكاوى والتحقيق فيها بدقة، مروراً بجمع الأدلة وتحديد الملابسات، وصولاً إلى إصدار الأحكام الرادعة بحق المتورطين، بما يضمن إنصاف الضحايا وحماية المجتمع".
وأشار إلى أن "المدارس تمثل خط الدفاع الأول لحماية الطفل، فهي البيئة التي يقضي فيها معظم وقته". وأكد ضرورة أن تضطلع المؤسسات التربوية بمراقبة سلوك التلاميذ والكشف المبكر عن أي مؤشرات للعنف، مع تدريب المعلمين على سرعة التحرك وإبلاغ الجهات المختصة عند رصد آثار نفسية أو جسدية على الطلبة، فضلاً عن أهمية توثيق تلك الآثار لضمان معالجتها قضائياً.
وختم القاضي بالتشديد على أن "مكافحة العنف ضد الأطفال مسؤولية جماعية"، داعياً إلى تطوير القوانين بما يواكب تحديات العصر، وإنشاء مراكز متخصصة للتأهيل والتدريب بدعم من الدولة والمجتمع المدني، تكون مهيأة لتقديم الدعم النفسي والتعليمي للأطفال ضحايا العنف. كما أكد أهمية توفير العلاج الطبي والخدمات الصحية اللازمة، بما يتيح لهم تجاوز الصدمات النفسية واستعادة حياتهم الطبيعية، ويمنحهم الثقة للانخراط مجدداً في المجتمع.