في قلب بغداد، يعود النقاش مجدداً حول واحدة من أكثر القضايا تعقيداً في المشهد الأمني العراقي: فوضى السلاح المنفلت، التي ما زالت تمثل أحد أبرز التحديات أمام استقرار الدولة وبناء الثقة بين المواطن ومؤسساتها.
فعلى الرغم من الجهود الحكومية المتواصلة منذ أكثر من عام لتنظيم حيازة السلاح، يبدو أن الطريق نحو السيطرة الكاملة لا يزال طويلاً ومليئاً بالعقبات.
ففي عام 2024 أطلقت وزارة الداخلية برنامجها الوطني لتسجيل الأسلحة، عبر بوابة إلكترونية ومراكز ميدانية، لتحديث قاعدة بيانات شاملة ومنح تراخيص رسمية لحائزي السلاح.
ومع ذلك، تشير الأرقام الرسمية إلى أن عدد القطع المسجلة لم يتجاوز 125 ألف قطعة حتى منتصف عام 2025، وهو رقم يبدو ضئيلاً أمام تقديرات غير رسمية تتحدث عن انتشار أكثر من سبعة ملايين قطعة سلاح خارج سيطرة الدولة، بين مسدسات وبنادق خفيفة ومتوسطة، كثير منها غير مرخص ويُستخدم في النزاعات الفردية والعشائرية.
منذ عام 2003، تدفقت إلى العراق كميات ضخمة من الأسلحة نتيجة الحروب، وعمليات التهريب، وبيع مخازن الجيش السابقة، فضلاً عن نشاط الجماعات المسلحة والعشائر. ومع مرور السنوات، تحول السلاح من وسيلة حماية إلى رمز قوة ونفوذ اجتماعي واقتصادي، تُستخدم أحياناً في الثأر أو فرض السيطرة داخل المجتمعات المحلية.
وتسجّل وزارة الداخلية مئات الحوادث سنوياً ناجمة عن استخدام غير قانوني للأسلحة، خصوصاً في المحافظات ذات الطابع العشائري أو التي تشهد نشاطاً لفصائل مسلحة.
النائب ياسر إسكندر، عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية، يؤكد أن اللجنة لا تميل إلى تمديد البرنامج لعام إضافي، مشيراً إلى أن "الفترة المحددة كانت كافية لتسجيل الأسلحة"، ومضيفاً أن من يتخلف عن التسجيل حتى نهاية عام 2025 سيواجه المساءلة القانونية ومصادرة السلاح.
ويشيد إسكندر بـ"مرونة وزارة الداخلية وتعاونها مع المواطنين"، لكنه يشدد على أن ضبط السلاح يتطلب جهداً مجتمعياً مشتركاً وإرادة سياسية حقيقية.
غير أن خبراء ومراقبين يشككون في جدوى إنهاء البرنامج دون تقييم شامل، إذ لا تزال بعض المحافظات تشهد ضعفاً واضحاً في الإقبال على التسجيل، خاصة في المناطق التي تكثر فيها النزاعات العشائرية أو النشاطات الفصائلية. ويحذر هؤلاء من أن تحديد موعد نهائي دون تمديد أو متابعة ميدانية قد يعمّق الفجوة بين القانون والواقع، خصوصاً مع ضعف تطبيق العقوبات حتى الآن.
ويشير مختصون في الشأن الأمني إلى أن المشكلة الحقيقية لا تكمن في عدد الأسلحة المسجلة، بل في غياب سياسة أمنية موحدة لنزع السلاح خارج إطار الدولة. فالكثير من الأحزاب والفصائل ما زالت تمتلك ترسانات خاصة تحت غطاء قانوني أو سياسي، الأمر الذي يجعل شعار "السلاح بيد الدولة" أقرب إلى الطموح منه إلى التطبيق.
ويرى مراقبون أن معالجة الظاهرة تتطلب خطة وطنية شاملة تجمع بين القانون والحوار المجتمعي، وتستند إلى بناء الثقة بين المواطن والدولة، بعيداً عن لغة التهديد والعقاب فقط. فالسلاح، في نظر كثير من العراقيين، جزء من ثقافة الحماية الشخصية والعائلية، وليس مجرد وسيلة للعنف، ما يجعل التعامل مع هذا الملف حساساً ودقيقاً.
وفي النهاية، يظل برنامج تسجيل الأسلحة خطوة مهمة لكنها غير كافية بمفردها. فنجاحه مرهون بمدى قدرة الدولة على تنفيذ حملات توعية فاعلة، وتطبيق القوانين بصرامة وعدالة، وملاحقة مصادر التهريب، مع إعادة تعريف العلاقة بين الأمن والمجتمع على أساس الثقة لا الخوف.
وحتى يتحقق ذلك، ستبقى ملايين الأسلحة غير المرخصة تهدد السلم الأهلي وتؤجل حلم العراقيين بدولة آمنة تحتكر القوة وتحمي الجميع بالقانون.