واضح – تقرير

تشهد الساحة السياسية العراقية، مع اقتراب كل انتخابات، تصاعداً في الوعود الفردية والشخصية التي يقدمها المرشحون لاستمالة الناخبين. كثير من هذه الوعود، التي تتخذ في ظاهرها طابعاً إنسانياً، سرعان ما تتلاشى بعد انتهاء العملية الانتخابية، تاركة وراءها شعوراً بـ"الخذلان" لدى المواطنين، خاصة الفئات الأشد ضعفاً، كالنساء وكبار السن.

قصة السيدة المسنة التي خذلت

وفي هذا السياق، تبرز قضية السيدة المسنة التي التقت بالنائب الأول لرئيس مجلس النواب محسن المندلاوي، والتي قوبلت بوعود انتخابية غير متحققة، لتكون نموذجاً صارخاً للفجوة بين الخطاب السياسي والالتزام الفعلي.

في بداية الأمر، جاء اللقاء بين السيدة المسنة والمندلاوي في إطار ما وصفه البعض بأنه "مبادرة إنسانية" من النائب، إذ وعدها بحل مشكلة ابنه المعتقل في سجون المملكة العربية السعودية، عبر دفع الغرامة المالية المطلوبة، بالإضافة إلى تسيير رحلة عمرة لها كي تتمكن من زيارة بيت الله الحرام مع ابنها. وقد بدا الوعد في حينه محاولة لإظهار حس إنساني واهتمام فردي بالمواطنين، وهو ما يعكس استراتيجيات "شائعة" لدى العديد من المرشحين العراقيين خلال الحملات الانتخابية.

 

إلا أن الواقع كشف عن تباين كبير بين الوعود وما تحقق فعلياً. بعد مرور نحو شهر على اللقاء، أبلغت الصحفية منار العبيدي، المتخصصة في شؤون المرأة والأقليات، أن الوعد لم يُنفذ، وأن السيدة المسنة وعائلتها حاولوا التواصل مع مكتب النائب دون جدوى، حيث لم يجدوا أي رد أو استجابة.

هذه الواقعة أثارت جدلاً واسعاً في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اعتبر الكثيرون أن ما حدث هو استغلال سياسي لمحنة إنسانية حقيقية، وأن ما وُعد به السيدة المسنة كان مجرد أداة للدعاية الانتخابية لا أكثر.

الواقعة سلطت الضوء – بحسب سياسيين - على ثغرة كبيرة في أخلاقيات الدعاية الانتخابية في العراق. فبينما يفترض أن تسعى الحملات السياسية لإيصال رسائل شاملة حول السياسات والخطط التنموية، يقوم بعض المرشحين بالتركيز على وعود فردية لأفراد محددين بهدف كسب أصواتهم وأصوات عائلاتهم، مستغلين بذلك حاجات الناس الملحة وظروفهم الصعبة. وفي حالة المندلاوي، فإن استغلال قضية السيدة المسنة يمثل نموذجاً واضحاً لتوظيف المعاناة الإنسانية لتحقيق مكاسب سياسية شخصية، وهو ما أثار انتقادات واسعة من المواطنين والصحفيين على حد سواء.

وقد وجه معلقون ونشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي انتقادات مباشرة للنائب، معتبرين أن وعده كان مجرد "دعاية انتخابية للضحك على كبار السن"، في حين رأى آخرون أن الاستثمار في هذا الفعل الإنساني كأداة انتخابية يمثل أحد أساليب المرشحين الأكثر فعالية، لكنهم شككوا في النوايا، مؤكدين أن هذه الوعود تتلاشى بمجرد انتهاء الانتخابات.

 

وذهب بعض المعلقين إلى حد القول بأن ما حدث يعكس غياب آلية حقيقية للمساءلة السياسية، حيث لا توجد متابعة رسمية أو ضغط مجتمعي فعّال لإلزام النواب بتنفيذ وعودهم الفردية.

في محاولة للتخفيف من حدة الانتقادات، ناشدت الصحفية منار العبيدي الجمهور تقديم الدعم للسيدة المسنة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ودعت إلى ممارسة ضغط جماهيري على مكتب النائب من خلال "تاكات" إلكترونية.

وأشارت العبيدي إلى أن النائب قد يكون نسي القضية أو يعتمد بشكل كامل على موظفي مكتبه، الذين لم يقوموا بالرد على اتصالات السيدة.

هذه الدعوة لوسائل الدعم الشعبية – بحسب مراقبين - تعكس رغبة المجتمع المدني في ملء الفراغ الذي تتركه المؤسسات الرسمية، خاصة في حالات الانتهاك البسيط للأعراف الانتخابية والوعود الفردية.

وفي ظل استمرار الإهمال الرسمي، اقترح بعض المعلقين أن يكون الحل عبر مبادرات شعبية مستقلة، كإطلاق حملة تبرعات لدعم السيدة المسنة وعائلتها، معتبرين أن هذه المبادرات المجتمعية أكثر فعالية من الاعتماد على النواب الذين لم يلتزموا بوعودهم. وقد أشار آخرون إلى أن مثل هذه الحالات تصبح رمزاً للفجوة بين خطاب الحملات الانتخابية والواقع العملي، حيث تتلاشى المبادرات الإنسانية المزعومة بمجرد انتهاء الانتخابات، تاركة المواطنين في مواجهة حاجاتهم وحدهم.

تستعرض هذه القضية أبعاداً متعددة، فاستغلال معاناة الفئات الأكثر ضعفاً لإظهار صورة إنسانية أمام الكاميرات والناخبين يعد انتهاكاً أخلاقياً. ومن جهة أخرى، تبرز القضية ضعف آليات المحاسبة والمساءلة، حيث لا توجد أطر مؤسسية تلزم النواب بتنفيذ الوعود الفردية، ما يسمح لبعضهم بالاستفادة من هذا الفراغ لمكاسب سياسية مباشرة.

 

تؤكد هذه الواقعة على ضرورة تطوير قوانين وتشريعات صارمة لمراقبة الدعاية الانتخابية وضمان عدم استغلال المواقف الإنسانية أو الظروف الطارئة للمواطنين. كما يجب أن تشمل هذه القوانين آليات متابعة، بحيث يتم إلزام المرشحين بتنفيذ ما يعلنونه أمام وسائل الإعلام، أو تقديم تفسيرات واضحة عند عدم قدرتهم على التنفيذ. وبغير هذه الآليات، يظل المواطن في حالة ضعف دائم أمام وعود انتخابية قد تكون مجرد أدوات للظهور الإعلامي وجذب الأصوات، بحسب خبراء في الشأن القانوني.

القضية أيضاً تسلط الضوء على دور الإعلام والمجتمع المدني في متابعة مثل هذه الوقائع. فعبر نشر التقارير والتحقيقات، مثلما قامت به الصحفية منار العبيدي، يمكن وضع النواب تحت ضغط جماهيري ومساءلة مباشرة، وهو ما قد يساهم في تحفيزهم على الوفاء بالوعود أو على الأقل تقديم اعتذارات أو توضيحات. وبالمثل، فإن المبادرات الشعبية مثل حملات التبرع أو الدعم المجتمعي تظهر كوسيلة تعويضية لحماية المواطنين من التلاعب السياسي المباشر.

من زاوية أوسع، يمكن اعتبار قضية السيدة المسنة رمزاً لتحديات الديمقراطية في العراق، حيث تتقاطع الحاجة الإنسانية مع الممارسة السياسية. فالانتخابات، التي يفترض أن تكون وسيلة للتعبير عن إرادة المواطن وضمان حقوقه، تتحول أحياناً إلى فرصة لاستغلال الضعفاء وإظهار صورة وهمية للمسؤولية الإنسانية.

وهذا يطرح تساؤلات حول مدى جدية المرشحين في التعامل مع قضايا المواطنين، خصوصاً عندما تكون هناك فجوة كبيرة بين الوعود والواقع العملي.

ويشير المتابعون إلى أن مثل هذه الحالات تؤثر سلباً على ثقة الجمهور بالمؤسسات السياسية. فعندما يرى المواطن أن وعود النواب تذهب أدراج الرياح بعد انتهاء الحملات الانتخابية، تتراجع ثقته في العملية السياسية بأكملها، ويزداد شعوره بـ"الخذلان" من الجهات الرسمية.

وهذا بدوره يمكن أن يقلل من المشاركة الانتخابية، ويزيد من الاستياء العام تجاه النظام السياسي، مما يضعف أساس الديمقراطية ويخلق بيئة خصبة للفساد السياسي والأخلاقي.

في الختام، تبقى قضية السيدة المسنة الناجمة عن وعد النائب محسن المندلاوي مثالاً صارخاً للفجوة بين الخطاب الانتخابي والالتزام الفعلي. بينما يمثل اللقاء في ظاهره مبادرة إنسانية، إلا أن الواقع كشف عن استغلال سياسي لمحنة حقيقية، ما يثير نقاشاً حول أخلاقيات الدعاية الانتخابية وضرورة وجود آليات فعالة للمساءلة.

 

وتظل المبادرات الشعبية ووسائل الإعلام المستقلة من الأدوات المهمة لتعويض غياب الالتزام الرسمي، وضمان ألا تبقى وعود الحملات الانتخابية مجرد شعارات تتلاشى بعد انتهاء الانتخابات.

إن حماية حقوق المواطنين، وخاصة الفئات الأضعف، تتطلب تكامل الجهود بين المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني والإعلام، لضمان أن تتحول الموارد والوعود السياسية إلى إجراءات ملموسة على أرض الواقع. فبدون هذه التكاملات، سيظل المواطن العراقي أمام واقع صعب، حيث تتداخل الحاجة الإنسانية مع السياسة، ويظل الأمل في العدالة والمساءلة مجرد شعار في حملات انتخابية.

كما تكفل منصة "واضح" حق الرد على المعلومات التي وردت في التقرير.