منصة واضح - تقرير
في العراق، لا يُعد وصول درجات الحرارة إلى مشارف الـ50 مئوية حدثًا استثنائيًا، بل واقعًا موسميًا معتادًا. لكن ما لم يعد مألوفًا هو التحولات العميقة في المزاج العام للمواطن العراقي، الذي بات أكثر انفعالًا وتوترًا، حتى أن حرارة الطقس أصبحت تُشعل فتيل العنف في الشارع والبيت والمؤسسات.
فبين ضغط الحر اللاهب، تتزايد نسب النزاعات والجرائم والعنف الأسري كما لو أن للطقس دورًا خفيًا في تأجيج الغضب الجماعي.
ورث العراقيون تركة ثقيلة من الغضب والمزاج المتقلب، ودوّن تاريخهم الحديث أحداثا كبرى وقعت في الصيف، أبرزها ما جرى في تاريخ العراق المعاصر، كإعلان الجمهورية والذي كان في يوليو/تموز، وفيها تمت إبادة العائلة المالكة وثورة 17-30 يوليو/تموز التي بدأ فيها حكم حزب البعث المحظور، وصولا الى التظاهرات التي شهدتها المدن العراقية التي توسعت خلال السنوات 2011-2019 نتيجة تأثير الحر على سلوك العراقيين.
حرارة الصيف تشعل فتيل الغضب
ويحاول الخبير القانوني علي التميمي أن يقارب هذه الفرضية من منظور علمي، مستندًا إلى دراسات أميركية ويابانية وفرنسية أكدت أن ارتفاع درجات الحرارة يرتبط بزيادة معدلات العنف، خصوصًا في المجتمعات التي تعاني تقلبات موسمية حادة. ويفتح هذا الاستنتاج نافذة لتحليل أعمق، لا يستثني أثر البيئة على الجهاز العصبي، ولا يتجاهل المعادلات النفسية والهرمونية التي قد تخلّفها الحرارة العالية على الأفراد.
ويكشف التميمي عن تجارب علمية مختبرية وضعت مجموعات بشرية في بيئات حرارية مختلفة، وخلصت إلى أن الأفراد في الغرف الساخنة أظهروا سلوكًا أكثر عدوانية. كما يشير إلى تأثير ارتفاع درجات الحرارة على هرموني “السيروتونين” و”التستوستيرون”، وهما مسؤولان عن التوازن المزاجي والسلوك الانفعالي، مما يعني أن المناخ قد لا يكون بريئًا تمامًا من إشعال فتيل العنف.
ويعود هذا التحليل إلى واقع العراق، إذ يشكل انقطاع الكهرباء المزمن، والتعرض المباشر للشمس، والضغط الاقتصادي والاجتماعي، بيئة مثالية لاشتعال الأعصاب.
لكن التميمي لا يسقط في فخ التبسيط، بل يشدد على أن الحرارة ليست العامل الوحيد، بل قد تكون مجرّد محفز وسط الفقر، والبطالة، وتفكك البنى الاجتماعية، وانتشار المخدرات.
ويظل هذا الربط بين الطقس والجريمة محفوفًا بالتحفظات المنهجية، فليس كل من يشعر بالحر يُقدم على القتل، وليس كل عنيف كان ضحية حرارة. لذلك، فإن المعادلة تبقى مفتوحة على عناصر متعددة، تتداخل فيها البيولوجيا مع السيكولوجيا، والمناخ مع الأخلاق، والفرد مع الدولة.
ويذكّر التميمي بأن القيم الدينية والاجتماعية في العراق أدت دورًا تقويميًا مهمًا، مشيرًا إلى صور الصبر في رمضان القائظ، والمواقف التي تجسّد “كظم الغيظ” في أقسى الظروف. وهو بذلك يراهن على قدرة الضمير الجمعي في مواجهة الانفعالات الطارئة، مهما كانت شديدة الوطأة.
قيم ومبادئ تتلاشى في الحر
من جانبه، يرى المتخصص بالمجال النفسي إبراهيم الصائغ، أن للعنف كثيرا من الدوافع، منها الفقر وضيق العيش والضغوط السياسية في المجتمع وظروف البلد وتكالب الحروب والتفكك الاجتماعي، إضافة لوجود المخدرات وتراجع الكثير من المثل والقيم والمبادئ المجتمعية، وهذا يدفع المجتمع لأن يتوجه إلى التنافس الشرس الجسدي والفكري، وهذا يسبب عنفا في بعض الأحيان.
ويمكن للعنف، والغضب، والانزعاج، والتململ، الموجود في المجتمع أن ينعكس على الأسرة، أي أن الشخص الذي ينزعج خارج المنزل يمكن أن يتحول غضبه إلى أسرته، وللسلطة والقانون دور في تخفيف العنف بالمجتمع، وفقا للصائغ.
للعنف الحصة الأكبر
من جهته، يؤكد الباحث الاجتماعي فالح القريشي، أن الجرائم المجتمعية تكثر خلال فصل الصيف وهذا ما تؤكده الكثير من التقارير والدراسات، فيما استعرض أسباب ذلك.
وقال القريشي، إن "المدن العراقية دائما ما تشهد ارتفاعا ملحوظا بنسب الجرائم المجتمعية خلال فصل الصيف والارتفاع الكبير في درجات الحرارة"، مشيرا الى ان "هذه الحرارة تولد انطباعا اندفاعيا وهجوميا، لتأثير الحرارة على سلوك الانسان، كما ان مشاكل المواطن تكثر خلال الصيف بسبب أزمات الماء والكهرباء وغيرها من أزمات المعيشة ولهذا نرى هناك ارتفاعا بعدد الجرائم المجتمعية وهذا مؤشر وهناك دراسات تؤكد ذلك".
وبيّن الباحث الاجتماعي ان "الجرائم المجتمعية، دائما ما تكون نفسية، والارتفاع في درجات الحرارة بكل تأكيد له تأثير سلبي على نفسية الانسان، لكن هذا لا يعني ان فصل الشتاء لا يشهد جرائم مجتمعية مختلفة، لكن ربما تكون نسبة اقل بما يقارب (15%) من فصل الصيف".
يشار إلى أن العراق سجل في العام 2024، 14 ألف حالة عنف أسري في، خصوصاً بحق الأطفال، فيما توقع متخصصون أن العدد الحقيقي "أكثر من المعلن".
وعام 2020، أقرّت الحكومة العراقية مشروع قانون مناهضة العنف الأسري داخل مجلس الوزراء، وأرسلته إلى مجلس النواب الذي لم يتمكن من إقراره وسط تجاذبات ومخاوف وعراقيل من قبل الكتل السياسية المتنفذة التي تنطلق من أيديولوجيات دينية، بحجة أن القانون تقليد لقوانين غربية، ويمنح المرأة حق الحصول على رعاية حكومية، وهو ما تراه تلك الأحزاب يشجع النساء على التمرد.